الأدب الإســــــــلامي

 

الاحتيال أنواع

[2/2]

 

  بقلم : الأديب الإسلامي معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية  

  

 

  

 

 

       والحاكم يضطرّ أن يحتال أمام الأمر الغامض المبهم ؛ ليكشف ماوراءه ، ويعرف خفي سرّه ، حتى تتبين الحقوق ، ويحمي الناس من الاعتداء والأذى ؛ والحيلة في هذا المجال وسيلة مهمة ، وتحتاج إلى ذكاء خارق ، حتى تؤدي الغرض منها بالسرعة المطلوبة ، وبالصورة المبتغاة ، وقد مرّ بسليمان بن داوود – عليهما السلام – موقف احتال أمامه بحيلة بارعة ، ما لبثت أن كشفت له المعمّى فيه ، وأبانت ما كان قد أخفي عنوةً وإصرارًا ، وهذه هي القصة :

       >قال >محمد بن كعب< القرطبي :

       جاء رجل إلى >سليمان بن داوود< – عليه السلام – فقال :

       يا نبي الله ، إنّ لي جيرانًا سرقوا أوزتي .

       فنادى : الصلاة جامعة .

       ثم خطبهم ، فقال في خطبته :

       >وأحدكم يسرق إوزة جاره ، ثم يدخل المسجد والريش على رأسه< .

       فمسح رجل على رأسه .

       فقال >سليمان< : خذوه ؛ فهوصاحبكم<(1).

       لقد بنى سليمان – عليه السلام – حيلته على أساس نفسي لم يخنه ، وجاء له بالنتيجة التي قصد إليها ، وجمع الناس من أجل تنفيذها ، وقد تمّ له بهذا ما أراد ، ووقع الرجل في فخ الحيلة الذي كان فاغرًا فاه في انتظاره .

       والحيل الخيرة لا تفتأ تطل برأسها من التراث، وتري كيف يستفيد الناس من عقولهم لعمل الخير، وازدهار أسبابه ، والقصة التالية فيها شيء من ذلك، وفيها من الإبداع ما أوجب تدوينها :

       >كان >سعيد بن عمرو< مؤاخيًا ليزيد بن المهلب، فلما حَبَس >عمر بن عبد العزيز< >يزيد<، ومنع من الدخول عليه ، أتاه >سعيد< فقال :

       يا أمير المؤمنين ، لي على >يزيد< خمسون ألف درهم ، وقد حلت بيني وبينه ، فإن رأيت أن تأذن لي فأقتضيه .

       فأذن له ، فدخل عليه ، فسّر به >يزيد<، وقال: كيف وصلت إليّ ، فأخبره .

       فقال >يزيد<، والله لا تخرج إلا وهي معك .

       فامتنع >سعيد< ، فحلف >يزيد< ليقبضنها .

       فقال >عدي بن الرقاع< :

لم أر محبوسًا من الناس واحدًا

حبا زائرًا في السجن غير >يزيد<

>سعيد بن عمرو< إذا أتاه أجازه

بخمسين ألفًا عجلت لسعيد(2)

       لقد مرت الحيلة بعمر بن عبد العزيز فلم يتنبه لها؛ لأنها متقنة ، ولقد كان >سعيد< موفقًا عندما جاء بأسلوب مؤدب ، وترك لعمر الخيار في أن يأذن أولا يأذن ، فلم يلح ، وحسنًا فعل عندما اختار أمر الدين واقتضاءه ؛ لأنه يعرف أن >عمر بن عبد العزيز< لايحرم صاحب حق من حقه ، ومدخل الحيلة دينيٌّ عند رجلٍ الدينُ عنده فوق كل اعتبار؛ ولهذا فمضمار جري حصان الحيلة قد اختير بعناية، فربح صاحبه ، ونال قصبَ السبق ، كما خطّط .

       وهناك حيلة ذكية جاء بها اللغب على الكلمات ، وباز فيها اللاعب ببغيته ، وفاتت بها على آخر طلبته ؛ فلما تَكَشَّف الأمر كان العذر جاهزًا ، وعلى هذا فلم يكن العامل النفسي هو الذي لعب الدور الأول في هذه التمثيلية ، وإنما كان لاعبًا مساندًا ، واللاعب الأول هو التلاعب بالألفاظ ، التي أدت الغرض منها بجدارة ، وفعلت فعلاً كبيرًا ، والقصة كما يلي:

       >قال >المغيرة بن شعبة< :

       ما خدعني أحد قط غير غلام من بلحارث بن كعب ؛ فإني ذكرت امرأة منهم ، فقال : أيها الأمير، لاخير لك فيها ، إني رأيت رجلاً قد خلا بها يقبّلها .

       ثم بلغني بعد أنه تزوّجها، فأرسلت إليه ، فقلت:

       ألم تعلمني أنك رأيت رجلاً يقبّلها؟

       فقال: بلى ، رأيت أباها يقبلها<(3).

       إنها لشجاعة من المغيرة أن يُقِرَّ أنه خدع، وخدعه فتى، وهو الرجل الناضج المجرب ، صاحب المنصب والأمارة ، ولعل الفتى لم يرد لأبنة قبيلته إلا فتى من هذه القبيلة ؛ ترى ما رأي الزوجة لو علمت بأنه صدّ عنها الأمير، أتراها تعتقد أنه خدعها هي أيضًا، أم ترىأنه عَلَّقها معروفًا وهو الشاب من قومها، وأعفاها من إحراج الأمير الذي يكبره سنًّا ، وأحرى أن يتزوّج ثم يطلق؛ يبقى هذا الجانب مبهمًا لنا .

       والتقبيل يوصلنا إلى قصة أخرى عن تقبيل مختلف، تأخذ الحيلة فيه منحى يؤدي إلى نفع لم يتوقع ، جاء من إخفاق الحيلة هذه المرة وليس من نجاحها ، والمحتال والمحتال عليه كلاهما ذكي ، وأحدهما يعرف الثاني جيدًا ، ويدخل إلى نفسيته فيسبر غورها، وعلى أساس ما يعرفه عنها يأتي تصرفه، والقصة كما يلي:

       >قال >الأصمعي<:

       دخل >أبوبكر< الهجري على >المنصور< فقال:

       يا أمير المؤمنين ، نَغَضَ فمي (أي تخلخلت أسناني)، وأنتم أهل بيت بركة، فلو أذنت لي، فقبلت رأسك ، لعل الله يشدد لي منه!

       فقال أبو جعفر: اختر منها ومن الجائزة .

       فقال: يا أمير المؤمنين: أهون عليّ من ذهاب درهم من الجائزة ألا تبقى في فمي حاكة<(4).

       لقد بسط >الهجري< على الصفحة كذبة ما لبث >المنصور< أن غاص إلى ما خلفها من حقيقة وصدق، وقاد معه في بحثه عنها >الهجري< نفسه، فجعله يقر علنًا، بما أخفاه باطنًا، وجعله يسلم بما لم يرد أن يظهره في أول الأمر .

       لقد أنست الجائزة الهجري حيلته ، فرخصت عنده عند لمعان وجه هذه الوافدة الجديدة ، التي جاءته تهدي نفسها بعد أن كان ظن أنها لن تأتي إلا بحيلة، والحقيقة أنها لم تأت إلا بحيلة نقضتْها حيلة!

       والخلفاء، طمعًا في رفدهم ، عرضة للحيل من أناس عرفوا بالإِتيان بالطرائف، وهي المصيدة التي عن طريقها يحصلون على الرفد، فهي دالتهم على الخلفاء وعمالهم، و>أبو جعفر المنصور< خاصة كان له نصيب وافر منها، ولشدته في بعض الأمور، ولينه في بعضها تأتي منه ومعهم طرائف، لعل زمنه ساعد عليها، فهو الوارث الحقيقي لمجتمع الأمويين، بما فيه من جد وهزل؛ لأن السفاح قضى وقتًا عصيبًا في توطيد الملك ، وتثبيت أركانه ، فلم يرو عنه في هذا المجال ما روي عن >المنصور< وعن >المهدي< و>الهادي< و>الرشيد< .

       وأبو دلامة رجل طريف ، وله قصص طريفة، ومن هذه القصص الحيلة التالية التي قابل بها المهدي:

       >قيل: قدم المهدي، أمير المؤمنين، (وقيل الرشيد)، فتلقاه الناس، وتلقاه >أبو دلامة< في جملة الناس، فأنشده:

إني نذرت لئن رأيتك سالماً

بقرى العراق وأنت ذو وفر

لتصلينّ على النبـي >محمــــد<

ولتملأن دراهمــاً حجــري

       فقال له أمير المؤمنين: أما الأولى فنعم، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وأما الأخرى فلست أفعل.

       فقال >أبو دلامة<: يا أمير المؤمنين، ما نذرت إلا الاثنين. فضحك ، وأمر حتى ملؤا حجره دراهم<(5).

       وحيلة >أبي دلامة< متقنة، فلولا الجزء الأول من الحيلة ما تمّ له ثانيها، وكانت الأولى الوسيلة للثانية، والأداة لقبولها، ولم يسع المهدي أن يتهرب من إعطاء >أبي دلامة< نتيجة جهده، وثمرة تخطيطه؛ ولقد كان الطعم الذي وضع في مقدمة الفخ شهيًّا ملزمًا، وبتناوله أطبق الفخ !

       ونصب الفِخَاخ بهذه الطريقة، والاستدراج بالمقبول إلى غير المقبول، أو الاستدراج بالمستحيل؛ ليوصل إلى المعقول أسلوب ناجح في الحيل، فأبو دلامة إذا كان بدأ بما لا يريد، فهناك رجل آخر مثله، بدأ بما لا يريد ليصل إلى ما يريد، ولولا هذه الحيلة لما وصل إلى ما وصل إليه من الغنم .

       وكانت حيلة هذا الرجل بارعة، إلى حد أن من حوله لم يدروا عن قصده، وأخذوا يلومونه على اقتصار طموحه إلى ما تحقّق له، ولم يدروا أن هذا هو كان منتهى أمله، وأن ما كان بذل من جهد فهو لهذه النتيجة ، والقصة صورتها كمايلي :

       >قال رجل لمعاوية : أقطعني البحرين .

       قال: إني لا أصل إلى ذلك .

       قال : فاستعلمني على البصرة .

       قال: ما أريد عزل عاملها .

       قال: تأمر لي بألفين .

       قال: ذلك لك .

       فقيل له : ويحك ! أرضيت بعد الأوليين بذلك!

       قال: اسكتوا، لولا الأوليان ما أُعطيت هذه<(6).

       لقد كانت الألفان منتهى طموحه، ولو طلبها مباشرة لما أعطى إياها، أو لما أُعطي إلا بعضها؛ ولكن الحيلة التي لجأ إليها، والجهد الذي بذله في إيجادها لم يخيّب أمله، فقد رضي بما حصل عليه، و>معاوية< تنفس الصعداء، إذ نزلت الصفقة إلى هذا المبلغ الطفيف ، واستراح من أن يدخل في أمر قد لا يكون الخروج منه سهلاً، فلابد أن الرجل ذو مركز في قومه، وإن كان أحمقًا، كما رأينا.

       وقد تتدنى الحيلة، وتكون ساذجة إلى حد أن سابكها لا يريد أكثر من ثمن كفن يحصل عليه، يتقاسمه مع رفيقه الذي قاسمه جهد الحيلة، وتحمل معه نصفها ، والقصة كالآتي:

       >قال >أبو هفّان<:

       كنت أنزل في جوار >المعلّى بن أيوب<، وكان >ابن أبي طاهر< قد نزل عندي؛ وكنا على ضيقة شديدة، فقلت لابن أبي طاهر: هل لك في شيء لا بأس به؟ تجيء حتى أُسَجِّيك، وأمضي إلى منزل المعلّى، وأعلمه أن رفيقًا لي توفي، وآخذ ثمن الكفن، فنتسع به أيامًا إلى أن يصنع الله.

       فقال: أفعل .

       وكان >المعلّى< قد أقام وكيلاً يكفّن كل من مات، ولم يخلِّف ما يكفن به، بثلاثة دنانير.

       قال أبو هفّان:

       فصرت إلى منزل المعلّى، وأعلمتهم ذلك، فجاء الوكيل؛ ليعرف حقيقة الخبر؛ ولما دخل منزلي، وكشف عن وجه ابن أبي طاهر استراب به، فنقر أنفه فضرط؛ فالتفت إليّ وقال: ما هذا ؟

       فقلت: هذه بقية روحه كرهت نكهته، فخرجت من إسته !

       فضحك حتى استلقى، ودفع لي ثلاثةدنانير، وقال: أنتم ظرفاء مجّان، فاصرفوها فيما تحتاجونه<(7).

       إن نظرنا إلى النتيجة، والثمرة التي جاءت من الحيلة، قلنا إن الحيلة نجحت، وإن نظرنا إلى اكتشاف وكيل >المعلّى< للحيلة، وعلمه بتدبير >أبي هفان< و>ابن أبي طاهر<، قلنا إن الحيلة أخفقت. ولابدّ أن الوكيل رحمهما، وعلم أنهما لم يلجأ إلى هذا التظاهر إلا لحاجة وعوز، والحي أولى من الميت بالرأفة والإحسان، وما جعله المعلَّى من صدقة في الأكفان.

       وإذا تدنت الحيلة إلى هذا المستوى من القصد، وإلى هذا الحد من الهدف؛ فإنها قد تعلو، وتأخذ عدة خطوات قد تعرضها للإِخفاق، لولا أن وراءها عقولاً فطنة تهيئ لها أسباب النجاح، وقد يجعل الدافع، لقوته وأهميته، القائمين بالأمر يبذلون الجهد حتى يأتي العمل متكاملاً، فيضمنون النتيجة، والقصة الآتية تمثّل ذلك:

       >كان >عبد الملك بن مروان< ولىّ بشر (بن مروان بن الحكم، وكان شابًا يحب اللهو والمرح) الكوفة، ووجّه معه >روح بن زنْباع<، (وكان شيخًا وقورًا متورعًا) .

       وقال عبدالملك : يابني >رَوْحٌ< عمك، والذي لاينبغي أن تقطع أمرًا دونه، لصدقه وعفافه، ومحبته لنا أهل هذا البيت .

       فخرج معه حتى قدما الكوفة، وكان >بشر< طريفًا أديبًا، يحب الشعر والسمر، والسماع والندام، فراقب >روحًا< واحتشمه، وقال: أخاف أن يكتب >روح< إلى أمير المؤمنين بأخبارنا، فتقبل منه، وإني لأحب من الأنس والاجتماع مايحبه الشباب؛ ولكني أتجنب ذلك لمكانه.

       فضمن له النديم كفاية أمره، وردَّهُ إلى عبدالملك من غير سخط ولا لائمة؛ فسرّ بذلك، ووعده مكافأته عليه بأعظم الحباء .

       وكان >روح< غيورًا، إذا خرج من منزله أقفله، وختمه بخاتمه حتى يعود فيفضه بيده؛ فأخذ الفتى دواة، ثم أتى منزل >رَوْحٍ< ممسيًا، فوقف بالقرب منه مستخفيًا، فخرج >روح< إلى الصلاة، فتوصل الفتى إلى أن دخل الدهليز، فكمن تحت درجة فيه، وعاد >روح< ففتح الباب وأغلقه من داخله، فلم يزل الفتى يحتال ويتلطف به حتى وصل، فكتب على حائط في أقرب المواضع من مرقد روح:

يا >روح< من لبنيات وأرملـــــــــــــــة

إذا نعاك لأهل المغـــــــــرب الناعي

إن >ابن مروان< قد حانتْ منيتُـــــــه

فارحلْ لنفسك يا >روح ابن زنباع<

ولا يغــــــــــرنّك أبكار منعّــمـــــــة

فاسمعْ- هديت- مقالَ الناصح الداعي

       ثم رجع إلى مكانه من الدهليز، فبات به، فلما أصبح روح خرج إلى الصلاة، فتبعه الفتى متنكرًا وخرج. وكان >روح< قبل خروجه أقفل على الموضع الذي كتب فيه الفتى، فلما عاد إلى الموضع، وأسفر الصبح تبين الكتاب، فراعه، وأنكره، وقال: ما هذا؟! فوالله ما دخل حجرتي أنسي سواي، ولا حظ لي في المقام بالعراق .

       ثم نهض إلى >بشر< فقال: أوصني بما أحببت من حاجة أو سبب عند أمير المؤمنين .

       قال: أو تريد الشخوص يا عم؟

       قال: نعم.

       قال: ولم ذاك؟ هل أنكرت شيئًا؟ أو رأيت قبيحًا لم يسعك المقام عليه؟

       فقال: لا والله، بل جزاك الله عن نفسك وسلطانك خيرًا؛ ولكن أمر حدث ولابدّ لي من الانصراف .

       فأقسم عليه أن يخبره .

       فقال: إن أمير المؤمنين ميت إلى أيام .

       قال : ومن أين علمت ذلك ؟

       فأخبره بخبر الكتاب .

       فقال >بشر<: أقم، فإني أرجو ألا يكون لهذا حقيقة .

       فلم يثنه شيء، وصار إلى الشام .

       وأقبل >بشر< على الشراب والطرب .

       فلما لقي روح عبد الملك أنكره أمره، وقال له: ما أقدمك؟ ألحادثة حدثت على بشر، أم لأمر كرهته؟

       فأثنى على بشر وقال:

       بل حدث أمر لا يمكنني ذكره حتى نخلو.

       فقال عبد الملك: إذا شئتم !

       وخلا بروح، فأخبره بقصته، وأنشد الأبيات، فضحك عبدالملك حتى استغرب، وقال:

       ثقل مكانك على >بشر< وأصحابه حتى احتالوا لك بما رأيت ، فلا ترع .

       ووفى >بشر< لنديمه بما وعده، وزاد ما كان منه في روح في حاله عنده، ومكانه منه<.(8)

       هذه حيلة مركّبة، فيها خطوات متتالية، تتابعها لازم، وإتقانها مهم لنجاحها، وقد جاء بعد دراسةٍ لحال الضحية، اقتضتها الخطوات التي سوف تنفذ، وكان فيها مخاطرة، لموقع روح ومكانه. وبيت القصيد، ومح الفكرة، والأساس الذي دارت عليه عجلة الحيلة ومحورها الأبيات المؤلّفة بعناية، المصاغَة باتقان ؛ لتوائم الهدف، ولتكون الضربة الدامغة في الإجهاز على الضحية، والقضاء على أي تردّد، أو التفكير في الأمر بعمق وعقل .

       أما عبدالملك؛ فلم يغب عن باله تفسير الأمر، وهو السياسي المحنّك، والحاكم اليقظ، والعارف بأمور الشباب وحيلهم لإِيجاد المسرح الذي يستطيعون أن يهيؤوه للعبهم .

       وتأخذ الحيل أحيانًا منحىً ساذجًا هو أقرب إلى الهزل، وأدنى إلى الفكاهة، رغم أن الموقف جد، وحد السيف فيه لامع، والنطع ملقى، والسياف مستعدّ، ومع هذا يبدع العقل في هذا الجو المخيف فكرة تأتي بنتيجة تفوقها حجمًا وقدرًا، والقصة الآتية من هذا النوع:

       >أمر >عبدالملك بن مروان< بضرب عنق خارجي، فقال:

       يا أمير المؤمنين، هذا جزائي منك.

       قال: كيف؟

       قال: والله ما خرجت معه إلا نظرًا لك، وتقربًا إليك. فإني ما صحبت أحدًا إلا هزم، وقتل وصلب؛ ولكوني مع غيرك خير لك من مئة ألف معك .

       فضحك ، وأطلقه<(9).

       إن الحيلة أثمرتْ ثمرة يانعة، لقد أبقت رأس الخارجي مستتبًا على كتفيه؛ ولكن الحيلة لم تمرّ بذهن >عبد الملك< دون أن يدري أنها حيلة؛ ولكن عبدالملك، وهو يبحث عن سبب يعفو به عن بعض حواشي الخوارج، يفرح بمثل هذا النطق في مجلس عام؛ لأنه دليل على عدم عمق عقيدة الخوارج لدى بعض أتباعهم؛ ولأن العفو بأي حجة يعفيه من سفك دم قد لا يجد العذر في سفكه .

       وعلى هذا النسق تأتي حيلة أخرى معجبة، هي أقرب للطرافة منها إلى الجهد، وقد نجحت فيما نويت له، إلا أن الخليفة لم يكن؛ ليغيب عن باله أنها حيلة، ولكنها أطربته؛ لما فيها من تبجيل له أمام الجمع في مجلسه، خاصة وأن الذنب لم يكن يوجب العقاب الصارم الذي أمر به الخليفة :

       >سخط >الرشيد< على >حميد< الطوسي، فدعا له بالسيف والنطع، فبكى .

       فقال: ما يبكيك ؟

       فقال: والله، يا أمير المؤمنين، ما أفزع من الموت؛ لأن لابد منه، وإنما بكيت أسفًا لخروجي من الدنيا وأمير المؤمنين ساخط علي.

       فضحك، وعفا عنه، وقال:

       إن الكريم إذا خادعته انخدعا<(10).

       هذه القصة، إذا صحت؛ فإن هارون الرشيد فيها قد أبان الجانب الذي أثر عليه وعلى عبد الملك في القصة السابقة، لقد أوضح أنه يعرف أن هذا خداع، ولكن من صفة الكرم إذا خُودع أن يظهر أنه انخدع، للفائدة التي تأتي من هذا .

       وعدم ذكر الذنب الذي ارتكبه >حميد< الطوسي يجعلنا لا نجزم بصحة القصة؛ لأن مثل هذا القتل ليس من طبيعة >الرشيد< أن يقدم عليه، ولعل القصة مركّبة مولدة، وأغرى بها ردّ الطوسي البديع.

       وننتقل إلى زمن الرسول ، وإلى قصة حدثت برضاه، فيها نفع لأحد المسلمين، وكانت الحيلة فيها بارعة، ووقع ضحيتها بلدة بكاملها، وقبيلة عظمى بفروعها، وقام بالحيلة رجل واحد، هيّأ لها جميع خطواتها، ونفذها بجدارة، ولم ينله من عواقبها شيء؛ دخل فيها بسلاسة، وخرج منها برفق وربح، والقصة هي قصة >الحجاج بن علاط< السلمي:

       >كان الحجاج قد أسلم، ولم تعلم قريش بإسلامه، فاستأذن رسول الله يوم خيبر، في أن يصير إليمكة، فيأخذ ما كان له من مال، وكانت له هناك أموال متفرقة، وهو رجل غريب بينهم، إنما هو أحد بني سليم بن منصور، ثم أحد بني بهز.

       فإذن له رسول الله ؛ فقال: يا رسول الله إني أحتاج أن أقول، قال: قل:

       [قال أبو العباس: وهذا كلام حسن، ومعنى حسن، يقول: أقول على جهة الاحتيال غير الحق، فأذن له رسول الله ؛ لأنه من باب الحيلة، وليس من باب الفساد، وأكثر ما يقال في هذا المعنى >تَقَوَّل< كما قال الله عز وجل: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ﴾](11).

       فصار إلى مكة فقالت قريش:

       هذا، لعمر الله! عنده الخبر.

       قال : فقولوا .

       فقالوا: بلغنا أن القاطع قد خرج إلى أهل خيبر.

       فقال الحجاج: نعم، فقتلوا أصحابه قتلاً لم يسمع بمثله، وأخذوه أسيرًا، وقالوا: نرى أن نكارم به قريشًا، فندفعه إليهم، فلا تزال هذه اليد لنا في رقابهم؛ وإنما بادرت لجمع مالي لعليّ أصيب به من فَلِّ محمد وأصحابه، قبل أن يسبقني إليه التِجّار، ويتصل بهم الحديث .

       قال: فاجْتَهَدُوا في أن جمعوا لي مالي أسرع جمع، وسروا أكثر السرور .

       >وأتاني العباس، وهو كالمرأة الواله، فقال:

       ويحك يا >حجاج< ما تقول!؟

       قال: فقلت: أكاتم أنت عليّ خبري؟

       فقال: أي والله!

       قال: فقلت: فالبث عليّ شيئًا حتى يَخِفّ موضعي.

       قال: فصرت إليه، فقلت: الخبر والله على خلاف ما قلت لهم؛ خلفت رسول الله ، وقد فتح خيبر، وخلفته والله معرسًا بابنة ملكهم؛ وما جئتك إلا مسلمًا فاطوِ الخبر ثلاثًا حتى أُعجِزَ القوم، ثم أشِعْهُ؛ فإنه والله الحق.

       فقال العباس: ويحك أحق ما تقول؟

       قلت : أي والله !

       قال: فلما كان بعد ثالثة تخلّق العباس، وأخذ عصاه، وخرج يطوف بالبيت. قال:

       فقالت قريش: يا أبا الفضل، هذا والله التجّلد لحر المصيبة!

       قال: كلاّ، ومن حلفتهم به ! لقد فتحها رسول الله وأعرس بابنة ملكهم .

       قالوا: من أتاك بهذا الحديث؟

       قال: الذي أتاكم بخلافه، ولقد جاءنا مسلمًا<.

       ثم أتت الأخبار من النواحي بذلك، فقالوا:

       أفلتنا الخبيث ، أولى له! <(12).

       وتأتي الحيلة هذه المرة من امرأة، نصبت رصدًا، وأقامت شركاً، ما فتئ أن وقع فيه رجل، كان المعنيَّ بالحيلة، وكان مدخل الشرك سهلاً بسيطاً؛ ولكن الثمرة ثمينة، والصيد فَرَا؛ ومن السهل وقوع البريء في براثن المخطِّط المستعد، خاصة إذا لم يكن هناك دلائل سابقة توجب الشك، وتوحي بالحذر، ولقد نجحت الحيلة، وإن كان مجرى الهدف اختلف، وعُدِّل ما كان مخططًا له أن لايكون مستقيمًا؛ ولكن نجاح الحيلة توقف على هذا التعديل الجوهري، والقصة تجري حوادثها كالآتي:

       >روى بعض الرواة أن >أبا دَهْبَل< الجمحي كان تقيًا، وكان جميلاً، فقفل من الغزو ذات مرة، فمرّ بدمشق، فدعته امرأة إلى أن يقرأ لها كتابًا، وقالت:

       إن صاحبته في هذا القصر، وهي تحب أن تسمع مافيه، فلما دخلت به برزت له امرأة جميلة، وقالت له:

       إنما احتلت لك بالكتاب حتى أدخلتك.

       فقال لها: أما الحرام فلا سبيل إليه.

       قالت: فلست تراد حرامًا .

       فتزوّجته، وأقام عندها دهرًا حتى نعي بالمدينة.

       وقد استأذنها ليلم بأهله، ثم يعود، فجاء وقد اقتسم ميراثه، فلما همّ بالعود إليها نُعيت له<(13).

       وتأتي الحيلة بارعة؛ ولكنها صغيرة، وإتقانها يجعل من روائها مكسبًا يجعل صاحبها يكرّرها، وتمر الحيلة على من سيقت عليه، ويقتله القهر والكمد؛ ولكن الناس مع المحتال وليسوا معه، ولابدّ أن يقع هذا الشاطر في مغبة فعله، وهو إن نجا مرة فقد لاينجو الأخرى .

       >قال الأعمش:

       دخل رجل دارًا فسرق طستًا، فلما خرج رأى على باب الدار نفرًا، فالتفت إلى الدار، فقال:

       إن لم يشتر بسبعة أبيعه بستة؟

       يوهم أنه دفع إليه؛ ليبيعه<(14).

       وهناك حيلة، لعلها منحولة وملفقة، ومع هذا فهي طريفة، ورُكِّبت لتقبل؛ ولكنا نعتقد أن هؤلاء، الكبار في المقام والعقل، لايفعلون ما قيل إنهم فعلوه، ولو حدث مثل هذا ممن قيل إنه احتال لجاء الجزاء عاجلاً وقويًا:

       >استعمل >معاوية< >أبا الأعور< السلمي على مصر بدل >عمرو بن العاص<، وكتب إليه كتابًا بالعزل . فلما قدم على >عمرو< احتال عمرو حتى وضع الكتاب من يده، وشغله بالأكل، ودسّ من سرق كتابه؛ فلما فرغ ادعى العمل، فقال عمرو:

       إنما جئتَ زائرًا، ونحن نصلك .

       فبلغ ذلك >معاوية<، فضحك من دهاء >عمرو<(15).

       >معاوية< إن كان عزم على عزل عمرو؛ فإنما يفعل ذلك لسبب قوي، ويقدم على هذا بعد تروٍّ وتبصر، فإذا أقدم أقدم بحزم وتصميم؛ ولا يرضيه بحال من الأحوال أن يضحك أحد من منصوبه بهذه الطريقة الصبيانية، فالأمر أمر أمن دولة، وسمعة خليفة؛ ولكنه خيال أديب جامحٌ .

       وطرافة >أشعب< وطمعه تجعله صاحب حيل متتابعة، لا يمرّ يوم دون أن يكون له فيه حيلة، وغالبًا ما تكون صيدًا لبطنه، وهذا أعطاه ملكة في سبك الحيل، وإيقاع الناس في شباكها، وهذه الملكة نفعتْه مع امرأة أحسّ أن رواءها كسبًا، والمال أهم من الأكل، وعن طريقه يضمن الأكل.

       >قال أشعب:

       جاءتني جارية بدينار وقالت:

       هذه وديعة .

       فجعلته بين ثني الفراش، فجاءت بعد أيام وقالت:

       ناولني الدينار.

       فقلت : ارفعي الفراش، وخذي ولده .

       وتركتُ إلى جنبه درهمًا، فَتَرَكَتْ الدينار، وأخذت الدرهم؛ وعادت بعد أيام فوجدت معه درهمًا آخر، فأخذته ، وعادت الثالثة كذلك .

       فلما رأيتها في الرابعة بكيت .

       فقالت : ما يبكيك ؟

       فقلت : مات دينارك في نفاسه .

       قالت: سبحان الله ! أيموت الدينار في النفاس؟

       قلت: يا فاسقة، تصدقين بالولادة، ولا تصدقين بالنفاس<(16).

       إما أن يكون أشعب ابتدع هذه القصة، أو أن أحدًا اخترعها، وعلقها عليه، أو أن المرأة ساذجة إلى حد البله المتناهي، والغفلة المجحفة .

       ونختم قولنا بحيلة أخفقت، وسبب إخفاقها، إن صدقت الرواية. حيلة أخرى غلبتْها، وأبطلت مفعولها؛ لأن العنصر في الثانية كان أقوى من الأولى، ولعلّ نية الخليفة الصالح، >عمر بن عبدالعزيز< هي التي مهّدت لنجاح الحيلة الثانية؛ بل لعلها هي التي سخّرت له من يعرّض عليه خدمة جُلَّى في كشف حيلة سيءِ نيةٍ أراد أن يختله فاختيل، وأراد أن يصيد فاصطيد:

       >وفد >بلال بن أبي بردة< على >عمر بن عبدالعزيز< بخناصره (بليدة من أعمال حلب) فسدك بسارية المسجد يصلي، فقال >عمر< للعلاء بن المغيرة:

       إن يكن سرّ هذا كعلانيته فهو رجل أهل العراقين بلا مدافع .

       فقال العلاء: أنا آتيك بخبره .

       فقال له: قد عرفتَ مكاني من أمير المؤمنين، فإن أشرت بك على ولاية العراق ما تجعل لي؟

       قال : عمالتي سنة، وهي عشرون ألف ألف.

       قال : فاكتب لي.

       فكتب له: فلما رآه >عمر< كتب إلى والي الكوفة:

       أما بعد:

       فإن بلالاً غرنا في الله، فكدنا نغترّ، ثم سبكنا. فوجدناه خبثاً كله، فلا تستعن على شيء من عملك بأحد من آل أبي موسى<(17).

       الهجوم على آل أبي موسى ملحوظ في تلك الفترة وما بعدها، ولم يسلم >أبو موسى< نفسه من تلفيق الأقوال عليه، ونسج الأخبار التي تسيء إليه، وإلى ذريته، يأتي هذا أحيانًا بقصص متكاملة، وأحيانًا لمزًا وغمزًا، وتعرَّضوا مثل باهلة في زمن الأمويين للنيل منهم، والحظّ من قدرهم، والسبب يعود إلى موقف أبي موسى من علي – رضي الله عنه – وعن وقوفه معه، مما لم يَنْسَه بعض أنصار بني أمية .

       و>عمر بن عبد العزيز< تقي يعرف قول الله – تبارك وتعالى ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾(18) ولو كان حصل من بلال ما حصل، لحذّر من بلال وحده، لا من آل أبي موسى كلهم .

       هذه بعض الحيل ، وكيف سارت، وإلى ماذا انتهت ، ومن أراد المزيد من حيل لم ترد في هذه المقالة، وهي تستحق أن تقرأ، وأن تتدبر؛ لأن فيها من العقل، وحسن التدبير، والخيال أحيانًا، وأهمية ما استعملت له الحيلة، ما يجعل قراءتها مفيدة وممتعة، فعليه بكتاب: >لطف التدبير، لمحمد بن عبد الله الخطيب الإِسكافي ، المتوفَّى عام 421هـ<(19).

       ويكاد الكتاب كله يكون حيلاً، وهو ما عبر عنه بالتدبير.

*  *  *

الهوامش :

(1)          عيون الأخبار: 1/299.

(2)          عيون الأخبار: 1/466.

(3)          عيون الأخبار: 2/218.

(4)          عيون الأخبار: 3/140.

(5)          عيون الأخبار: 3/134.

(6)          عيون الأخبار: 3/147 .

(7)          البصائر: 1/27 .

(8)          البصائر: 3/131، ربيع الأبرار: 1/798.

(9)          ربيع الأبرار: 1/543، البصائر: 4/46.

(10)      ربيع الأبرار: 1/728.

(11)      سورة الطور، الآية: 33.

(12)      الكامل: 1/455.

(13)      الكامل: 1/387.

(14)      البصائر: 5/195.

(15)      ربيع الأبرار: 1/794.

(16)      الأنعام، الآية:164.

(17)      دارالكتب العلمية، تحقيق: أحمد عبد الباقي، الطبعة الثانية: 1399هـ / 1979م.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محـرم – صفـر 1428هـ = فبـراير - مارس  2007م ، العـدد : 1-2  ، السنـة : 31.